•°ما هو سرّ الصلاة ؟ وتمثيل لذلك°•
وكان سرُّ الصلاة ولُبها إقبال القلب فيها على الله ، وحضوره بكلِّيته بين يديه ، فإذا لم يقبل عليه وإشتغل بغيره ولهى بحديث نفسه ، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذراً من خطاياه ومستمطراً سحائب جوده و كرمه و رحمته ، مستطعماً له ما يقيت قلبه ، ليقوى به على القيام في خدمته ، فلما وصل إلى باب الملك ، ولم يبق إلا مناجته له ، إلتفت عن الملك وزاغ عنه يميناً وشمالاً , أو ولاه ظهره ، و إشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك ، وأقلّه عنده قدراً فآثره عليه ، وبعث غلمانه وخدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضاً عنه و يعتذروا عنه ، و ينوبوا عنه في الخدمة ، والملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا ، فكرم الملك وجوده وسعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع ، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين ، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : ولكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون ، والله سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له ، وخلق كل شيء له ، و من أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كلّ شيء ، وإن فُتَّك فاتك كلّ شيء ، وأنا أحب إليك من كلّ شيء ".•° °•
ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة
وما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة و الجفوة و القسوة ، والإعراض والزَّلات ، والخطايا ، فيبعده ذلك عن ربه ، وينحّيه عن قربه ، فيصير بذلك كأنه أجنبياً من عبوديته ، ليس من جملة العبيد ، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره ، وغلَّه ، وقيَّده ، وحبسه في سجن نفسه وهواه .
فحظه ضيق الصدر ، ومعالجة الهموم ، والغموم ، والأحزان ، والحسرات ، ولا يدري السبب في ذلك ,فإقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته , عبودية جامعة ، مختلفة الأجزاء ، والحالات بحسب إختلاف الأحداث التي كانت من العبد ، وبحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية .
•° °•
الكلام عن الوضوء
فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ ، ويُقدم على ربِّه متطهرا ، والوضوء له ظاهر وباطن :
فـظاهره : طهارة البدن ، وأعضاء العبادة , وباطنه و سرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة ؛ ولهذا يقرن جل و علا بين التوبة والطهارة في قوله تعالى : إن الله يحب التَّوابين و يحب المتظهرين , وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول : " اللهم اجعلني من التوّابين ، واجعلني من المتطهرين " .
فكمَّل له مراتب العبدية والطهارة ، باطنا وظاهرا ، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك ، وبالتوبة يتطهر من الذنوب ، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة .•° °•
من تمام العبودية الذهاب للمسجد
فلما طهر ظاهراً وباطناً ، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه وبذلك يخلص من الإباق وبمجيئه إلى داره ، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه ، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم والمستحبة عند آخرين ، فإذا وقف بين يديه موقف والتذلل والانكسار ، فقد إستدعى عطف سيِّده عليه ، وإقباله عليه بعد الإعراض عنه .
•° °•
عبودية التكبير " الله أكبر "
وأُمر بأن يستقبل القبلة بوجهه ، ويستقبل الله عز وجل بقلبه ، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض ، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه ، وألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس ، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه ، وطرفة عين ، لا يمنة ولا يسرة ، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه , وأقبل بكليته عليه ، ثم كبَّره بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء ، و صدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه ، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره ، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله ، وكان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل على غير الله ، معظماً له ، مجلاً ، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير ، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية ، ومنعه من التفات قلبه إلى غير الله .
•° °•
عبودية الإستفتاح
فإذا قال : " سبحانك اللهم وبحمدك " وأثنى على الله تعالى بما هو أهله ، فقد خرج بذلك عن الغفلة وأهلها ، فإن الغفلة حجاب بينه وبين الله , وأتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيماً له ، وكان ذلك تمجيداً ومقدمة بين يدي حاجته. فكان في الثناء من آداب العبودية ، وتعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه ، ورضاه عنه ، وإسعافه بفضله , وقضاء حوائجه.•° °•